الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي على اليدين وعلى الفم، وهو متولد من معنى الاختصاص الذي هو أعم معاني اللام، لأن الاختصاص بالشيء يقع بكيفيات كثيرة منها استعلاؤه عليه.وإنما سلك هنا حرف الاختصاص للإشارة إلى أن الجنب مختص بالدعاء عند الضر ومتصل به فبالأولى غيره.وهذا الاستعمال منظور إليه في بيت جابر والآيتين الأخريين كما يظهر بالتأمل، فهذا وجه الفرق بين الاستعمالين.وموضع المجرور في موضع الحال، ولذلك عطف {أو قاعدًا أو قائمًا} بالنصب.وإنما جعل الجنب مجرورًا باللام ولم ينصب فيقال مثلًا مضطجعًا أو قاعدًا أو قائمًا لتمثيل التمكن من حالة الراحة بذكر شق من جسده لأن ذلك أظهر في تمكنه، كما كان ذكر الإعطاء في الآيتين الأخريين وبيت جابر أظهر في تمثيل الحالة بحيث جمع فيها بين ذكر الأعضاء وذكر الأفعال الدالة على أصل المعنى للدلالة على أنه يدعو الله في أندر الأحوال ملابَسَةً للدعاء، وهي حالة تطلب الراحة وملازمة السكون.ولذلك ابتدئ بذكر الجنب، وأما زيادة قوله: {أو قاعدًا أو قائمًا} فلقصد تعميم الأحوال وتكميلها، لأن المقام مقام الإطناب لزيادة تمثيل الأحوال، أي دعانا في سائر الأحوال لا يلهيه عن دعائنا شيء.والجنب: واحد الجنوب.وتقدم في قوله: {فتكوى بها جباههم وجنوبهم} في سورة [براءة: 35].والقعود: الجلوس.والقيام: الانتصاب.وتقدم في قوله: {وإذا أظلم عليهم قاموا} في سورة [البقرة: 20].و(إذا) هٌّا لمجرد الظرفية وتوقيتتِ جوابها بشرطها، وليست للاستقبال كما هو غالب أحوالها لأن المقصود هنا حكاية حال المشركين في دعائهم الله عند الاضطرار وإعراضهم عنه إلى عبادة آلهتهم عند الرخاء، بقرينة قوله: {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} إذ جعلها حالًا للمسرفين.وإذ عبر عن عملهم بلفظ {كانوا} الدال على أنه عملهم في ماضي أزمانهم، ولذلك جيء في شرطها وجوابها وما عطف عليهما بأفعال المضي لأن كون ذلك حالهم فيما مضى أدخلُ في تسجيله عليهم مما لو فرض ذلك من حالهم في المستقبل إذ لعل فيهم من يتعظ بهذه الآية فيقطع عن عمله هذا أو يساق إلى النظر في الحقيقة.ولهذا فرع عليه جملة: {فلما كشفنا عنه ضره مرَّ} لأن هذا التفريع هو المقصود من الكلام إذ الحالة الأولى وهي المفرع عليها حالة محمودة لولا ما يعقبها.والكشف: حقيقته إظهار شيء عليه ساتر أو غطاء.وشاع إطلاقه على مطلق الإزالة.إما على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق، وإما على طريقة الاستعارة بتشبيه المزال بشيء ساتر لشيء.والمرور: هنا مجازي بمعنى استبدال حالة بغيرها.شُبه الاستبدال بالانتقال من مكان إلى آخر لأن الانتقال استبدال، أي انتقل إلى حال كحَال من لم يسبق له دعاؤُنا، أي نسي حالة اضطراره واحتياجه إلينا فصار كأنه لم يقع في ذلك الاحتياج.و(كأنْ) مخففة كأنَّ، واسمها ضمير الشأن حذف على ما هو الغالب.وعدي الدعاء بحرف (إلى) في قوله: {إلى ضر} دون اللام كما هو الغالب في نحو قوله: على طريقة الاستعارة التبعية بتشبيه الضر بالعدو المفاجئ الذي يدعو إلى من فاجأه ناصرًا إلى دفعه.وجَعْل (إلى) بمعنى اللام بُعد عن بلاغة هذا النظم وخلط للاعتبارات البلاغية.وجملة: {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} تذييل يعم ما تقدم وغيره، أي هكذا التزيين الشيطاني زين لهم ما كانوا يعملون من أعمالهم في ماضي أزمانهم في الدعاء وغيره من ضلالاتهم.وتقدم القول في معنى مَوقع (كذلك) في أمثال هذه الآية عند قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} في سورة [البقرة: 143] وقوله: {كذلك زينا لكل أمة عملهم} في سورة [الأنعام: 108]، فالإشارة إلى التزيين المستفاد هنا وهو تزيين إعراضهم عن دعاء الله في حالة الرخاء، أي مثلَ هذا التزيين العجيب زين لكل مُسرف عمله.والإسراف: الإفراط والإكثار في شيء غير محمود.فالمراد بالمسرفين هنا الكافرون.واختير لفظ {المسرفين} لدلالته على مبالغتهم في كفرهم، فالتعريف في المسرفين للاستغراق ليشمل المتحدث عنهم وغيرهم.وأسند فعل التزيين إلى المجهول لأن المسلمين يعلمون أن المزين للمسرفين خواطرهم الشيطانية، فقد أسند فعل التزيين إلى الشيطان غيرَ مرة، أو لأن معرفة المزين لهم غيرُ مهمة هاهنا وإنما المهم الاعتبار والاتعاظ باستحسانهم أعمالهم الذميمة استحسانًا شنيطًا.والمعنى أن شأن الأعمال الذميمة القبيحة إذا تكررت من أصحابها أن تصير لهم دُربة تُحسن عندهم قبائحها فلا يكادون يشعرون بقبحها فكيف يقلعون عنها كما قيل: اهـ.
أي: يكفي أن يصل الإنسان إلى الدرجة التي يتمنى فيها الموت.ونلحظ أن الحق سبحانه قد جاء بموقف الإنسان من الضر في أكثر من موضع، فنجد آية تفرد الإنسان بمعنى؛ وآية ثانية تفرده بمعنى آخر، وآية ثالثة تصور وضع الإنسان بشكل آخر.يقول سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ...} [الزمر: 8].ويقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا}.ويقول سبحانه في موضع آخر: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 53-54].إذن: فالحق سبحانه يأتي بها مفردةً مرّة، ومرة يأتي بها جمعًا. ومرة يأتي بها مفردة على ألوان شتّى، ومرة ثاني بها جمعًا بألوان شتّى، ومرة يذكرها في البر، ومرة يذكرها في البحر: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ...} [الإسراء: 67] إذن: فالآيات تستوعب حالات الإنسان المختلفة؛ إذا ما أصابه ضرّ، ولم يجد مَفْزعًا له لا من ذاته ولا من البيئة المحيطة به، فلا يجد من يلجأ إليه إلا ربه.ومن الأسف أن هذا الإنسان يكون كافرًا بالله.والآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تعطينا صورًا متعددة؛ فالحق سبحانه يقول: {دَعَانَا لِجَنبِهِ} أي: وهو مضطجع، {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}. وهكذا تتناول الآية الإنسان في تصرفاته في الكون. والآية متمشية مع أطوار تكوين الإنسان؛ فالطفل الصغير لا يستطيع أن يتقلّب، بل يقلّبه أهله؛ لينام على جنبه، يكبر قليلًا فهو يتقلب بمفرده ثم تأتي حركة القوة الثانية؛ فيقعد الطفل، ثم يقف دون أن يمشي، ثم يمشي من بعد ذلك.والآية هنا تعطينا التصوير الدقيق لثلاث حالات: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}، ولم تَأت حركة المشي؛ لأن المتحرك للمشي لا يقعده الضر، لكن من يمر بالمراحل الأخرى قائمًا أو قاعدًا أو راقدًا على الجنب، فقد يناله الضر.وتلك هي مراحل النقض لمظاهر الحياة، فالإنسان يعيش الطفولة، ثم فُتوَّة الشباب، ثم يأتيه الضعف والشيب، فلا يستطيع أن يمشي بقوة الشاب، وإن كان يستطيع الوقوف، ثم تدخل عليه الشيخوخة؛ فيقعد، ولا يستطيع أن يقف، ثم تتقدم به الشيخوخة؛ فلا يمشي، ولا يقف، ولا يقعد، ويظل راقدًا على جنبه، وقد يقلّبه أهله.إذن: نقض كل شيء إنما يأتي على عكس بنائه؛ فكما بنيت مراحل الإنسان هكذا جنبًا، فقعودًا فقيامًا، فسعيًا وحركة، فهي تنتهي بالعكس؛ لأن النقض دائمًا على عكس البناء.ومن هذا خرجنا بالاستدلال على صدق الله في إخباره لخلقه بكيفية الخلق؛ لأننا لم نشاهد عملية الخلق، مصداقًا لقوله سبحانه: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدًا} [الكهف: 51].ولأن الحق لم يُشْهدْ أحدًا على كيفية خَلْق السماء والأرض وخلق الإنسان، فنحن لا نأخذ معلومات عن كيفية الخلق بعيدًا عن القرآن؛ لذلك لا نصدق الافتراضات القائلة بأن الأرض كانت قطعة من الشمس وانفصلت عنها ثم انخفضت درجة حرارتها؛ فكل هذه افتراضات لم تثبت صحتها، والحق سبحانه قد قال: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ...} [الكهف: 51].وهذا القول يدل على أن العقل البشري لا يمكن أن يصل إلى معرفة كيفية خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، وهو معزول عن منهج السماء. فإن حُدِّثْتُمْ كيف خُلقتم بصورة تختلف عما جاء في القرآن فقولوا: كذبتم، وإن حُدِّثتم كيف خُلقت السماوات والأرض بغير ما جاء في كتاب الله؛ فقولوا: كذبتم؛ لأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض والإنسان وحده، ولا أحد معه، وما شهد أحد من هؤلاء مشهدًا ليخبركم به. ويقول الحق سبحانه: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدًا} [الكهف: 51].
|